فصل: تفسير الآيات (65- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (65- 67):

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
{علمتم} معناه: عرفتم، كما تقول: علمت زيداً بمعنى عرفته، فلا يتعدى العلم إلا إلى مفعول واحد، و{اعتدوا} معناه تجاوزوا الحد، مصرف من الاعتداء، و{في السبت} معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت، و{السبت} مأخوذ إما: من السبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من السبت وهو: القطع، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها.
وقصة اعتدائهم فيه، أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم الجمعة، وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء، فذكر موسى عليه السلام ذلك لبني إسرائيل عن الله تعالى وأمرهم بالتشرع فيه، فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم فيه بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم صيد الحيتان، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية. قاله الحسن بن أبي الحسن. وقيل حتى تخرج خرطيمها من الماء، وذلك إما بالإلهام من الله تعالى، أو بأمر لا يعلل، وإما بأن فهمها معنى الأمنة التي في اليوم مع تكراره حتى فهمت ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قد ألهم الدواب معنى الخوف الذي في يوم الجمعة من أمر القيامة، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقاً من الساعة»، وحمام مكة قد فهم الأمنة، إما أنها متصلة بقرب فهمها.
وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقوا على ذلك زماناً حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت فربط حوتاً بخزمة، وضرب له وتداً بالساحل، فلما ذهب السبت جاءَ وأخذه، فسمع قوم بفعله فصنعوا مثل ما صنع، وقيل بل حفر رجل في غير السبت حفيراً يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت خرج الحوت وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير وبقي الحوت، فجاء بعد السبت فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية، وباعوه في الأسواق، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك فنجت من العقوبة، وكانت منهم فرقة لم تعص ولم تنه، فقيل نجت مع الناهين، وقيل هلكت مع العاصين.
و{كونوا} لفظة أمر، وهو أمر التكوين، كقوله تعالى لكل شيء: {كن فيكون} [النحل: 40 مريم: 35، يس: 82، غافر: 68]، ولم يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه تكسب.
و{خاسئين} معناه مبعدين أذلاء صاغرين، كما يقال للكلب وللمطرود اخساً. تقول خسأته فخسأ، وموضعه من الإعراب النصب على الحال أو على خبر بعد خبر.
وروي في قصصهم أن الله تعالى مسخ العاصين {قردة} بالليل فأصبح الناجون إلى مساجدها ومجتمعاتهم، فلم يروا أحداً من الهالكين، فقالوا إن للناس لشأناً، ففتحوا عليهم الأبواب كما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم {قردة} يعرفون الرجل والمرأة، وقيل: إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار، تبرياً منهم، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار فإذا هم قردة، يثب بعضهم على بعض.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عن أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام؛ ووقع في كتاب مسلم عنه عليه السلام أن أمة من الأمم فقدت، وأراها الفأر، وظاهر هذا أن الممسوخ ينسل، فإن كان أراد هذا فهو ظن منه عليه السلام في أمر لا مدخل له في التبليغ، ثم أوحي إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل، ونظير ما قلناه نزوله عليه السلام على مياه بدر، وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا بشر».
وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردّت أفهامهم كأفهام القردة، والأول أقوى، والضمير في {جعلناها}: يحتمل العود على المسخة والعقوبة، ويحتمل على الأمة التي مسخت، ويحتمل على القردة، ويحتمل على القرية إذ معنى الكلام يقتضيها، وقيل يعود على الحيتان، وفي هذا القول بعد.
والنكال: الزجر بالعقاب، والنكل والأنكال: قيود الحديد، فالنكال عقاب ينكل بسببه غير المعاقب عن أن يفعل مثل ذلك الفعل، قال السدي: ما بين يدي المسخة: ما قبلها من ذنوب القوم، {وما خلفها}: لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب، وهذا قول جيد، وقال غيره: {ما بين يديها} أي من حضرها من الناجين، {وما خلفها} أي لمن يجيء بعدها، وقال ابن عباس: {لما بين يديها}: أي من بعدهم من الناس ليحذر ويتقي، {وما خلفها}: لمن بقي منهم عبرة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما أراه يصح عن ابن عباس رضي الله عنه، لأن دلالة ما بين اليد ليست كما في القول، وقال ابن عباس أيضاً: {لما بين يديها وما خلفها}، أي من القرى، فهذا ترتيب أجرام لا ترتيب في الزمان.
{وموعظة} مفعلة من الاتعاظ والازدجار، {وللمتقين} معناه للذين نهوا ونجوا، وقالت فرقة: معناه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، واللفظ يعم كل متق من كل أمة.
وقوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه} الآية: {إذ} عطف على ما تقدم، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق، وقرأ أبو عمرو {يأمرْكم} بإسكان الراء، وروي عنه اختلاس الحركة، وقد تقدم القول في مثله في {بارئكم}.
وسبب هذه الآية على ما روي، أن رجلاً من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل أخوه، وقيل ابنا عمه، وقيل ورثة كثير غير معينين، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه، وقيل: كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين، وهي التي لم يقتل فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلاً، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء حتى دخلوا في السلاح، فقال أهل النهي منهم: أنقتل ورسول الله معنا؟ فذهبوا إلى موسى عليه السلام فقصوا عليه القصة، وسألوه البيان، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}، فكان جوابهم أن قالوا: {أتتخذنا هزواً}؟ قرأ الجحدري {أيتخذنا} بالياء، على معنى أيتخذنا الله، وقرأ حمزة: {هزْؤاً} بإسكان الزاي والهمز، وهي لغة، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز، وقرأ أيضاً: دون همز {هزواً}، حكاه أبو علي، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاء والهمزة بين بين، وروي عن أبي جعفر وشيبة ضم الهاء وتشديد الزاي {هُزّاً}، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت معجزاته، وقال: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}، {أتتخذنا هزواً}، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، وكما قال له الآخر: اعدل يا محمد، وكلٌّ محتمل، والله أعلم.
وقول موسى عليه السلام: {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين}، يحتمل معنيين: أحدهما الاستعاذة من الجهل من أن يخبر الله تعالى مستهزئاً، والآخر من الجهل كما جهلوا في قولهم {أتتخذنا هزواً} لمن يخبرهم عن الله تعالى.

.تفسير الآيات (68- 70):

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}
هذا تعنت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر فاستعرضوا بقرة فذبحوها لقضوا ما أمروا به، ولكن شددوا فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ولغة بني عامر ادعِ بكسر العين، و{ما} استفهام رفع بالابتداء، وهي خبره، ورفع {فارض} على النعت للبقرة على مذهب الأخفش، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره لا هي فارض، والفارض المسنة الهرمة التي لا تلد، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم، تقول فرضت تفرض بفتح العين في الماضي، فروضاً، ويقال فرضت بضم العين، ويقال لكل ما قدم وطال أمده فارض، وقال الشاعر [العجاج]: [الرجز]
يا رب ذي ضغن عليَّ فارض ** له قروء كقروء الحائض

والبكر من البقر التي لم تلد من الصغر، وحكى ابن قتيبة أنها التي ولدت ولداً واحداً، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجل، والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى، والعوان التي قد ولدت مرة بعد مرة، قاله مجاهد، وحكاه أهل اللغة، ومنه قول العرب: العوان لا تعلم الخمرة. وحرب عوان: قد قوتل فيها مرتين فما زاد، ورفعت {عوان} على خبر ابتداء مضمر، تقديره هي عوان، وجمعها عون بسكون الواو، وسمع عون بتحريكها بالضم.
و{بين}، بابها أن تضاف إلى اثنتين، وأضيفت هنا إلى {ذلك}، إذ ذلك يشار به إلى المجملات، فذلك عند سيبويه منزلة ما ذكر، فهي إشارة إلى مفرد على بابه، وقد ذكر اثنان فجاءت أيضاً {بين} على بابها.
وقوله: {فافعلوا ما تؤمرون} تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت، فما تركوه، و{ما} رفع بالابتداء، و{لونها} خبره، وقال ابن زيد وجمهور الناس في قوله: {صفراء}، إنها كانت كلها صفراء، قال مكي رحمه الله عن بعضهم: حتى القرن والظلف، وقال الحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير: كانت صفراء القرن والظلف فقط، وقال الحسن أيضاً: {صفراء} معناه سوداء، وهذا شاذ لا يستعمل مجازاً إلا في الإبل، وبه فسر قول الأعشى ميمون بن قيس: [الخفيف]
تلك خيلي منه وتلك ركابي ** هنَّ صفرٌ أولادُها كالزبيب

والفقوع: نعت مختص بالصفرة، كما خص أحمر بقانئ، وأسود بحالك، وأبيض بناصع، وأخضر بناضر، و{لونها} فاعل ب {فاقع}.
و{تسر الناظرين} قال وهب بن منبه: كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها، فمعناه تعجب الناظرين، ولهذا قال ابن عباس وغيره: الصفرة تسر النفس، وحض ابن عباس على لباس النعال الصفر، حكاه عنه النقاش، وحكي نهي ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهمّ، وقال أبو العالية والسدي: {تسر الناظرين} معناه في سمنها ومنظرها كله، وسألوه بعد هذا كله عما هي سؤال متحيرين قد أحسوا بمقت المعصية، و{البقر} جمع بقرة، وتجمع أيضاً على باقر، وبه قرأ ابن يعمر وعكرمة، وتجمع على بقير وبيقور، ولم يقرأ بهما فيما علمت، وقرأ السبعة: {تشابه} فعل ماض، وقرأ الحسن {تشّابهُ} بشد الشين وضم الهاء، أصله تتشابه، وهي قراءة يحيى بن يعمر، فأدغم، وقرأ أيضاً {تَشَابهُ} بتخفيف الشين على حذف التاء الثانية، وقرأ ابن مسعود {يَشابهُ} بالياء وإدغام التاء، وحكى المهدي عن المعيطي {يشَّبَّهُ} بتشديد الشين والباء دون ألف، وحكى أبو عمرو الداني قراءة {متشبه} اسم فاعل من تَشَبَّه، وحكي أيضاً {يتشابهُ}.
وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد ودليل ندم وحرص على موافقة الأمر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لولا ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبداً»، والضمير في {إنا}، هو اسم {إن}، و{مهتدون} الخبر، واللام للتأكيد، والاستثناء اعتراض، قدم على ذكر الاهتداء، تهمماً به.

.تفسير الآيات (71- 73):

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}
{ذلول}: مذللة بالعمل والرياضة، تقول بقرة مذللة بيِّنة الذِّل بكسر الذال، ورجل ذلول بين الذُّل بضم الذال، و{ذلول} نعت ل {بقرة}، أو على إضمار هي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: {لا ذلولَ} بنصب اللام.
و{تثير الأرض}، معناه بالحراثة، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة، أي لا ذلول مثيرة، وقال قوم {تثير} فعل مستأنف، والمعنى إيجاب الحرث وأنها كانت تحرث ولا تسقي، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، لأنها من نكرة، و{تسقي الحرث} معناه بالسانية أو غيرها من الآلات، و{الحرث} ما حرث وزرع.
و{مسلمة} بناء مبالغة من السلامة، قال ابن عباس وقتادة وأبو العالية: معناه من العيوب، وقال مجاهد: معناه من الشيات والألوان، وقال قوم: معناه من العمل.
و{لا شية فيها}: أي لا خلاف في لونها هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد قاله ابن زيد وغيره، والموشي المختلط الألوان، ومنه وشي الثوب، تزيينه بالألوان، ومنه الواشي لأنه يزين كذبه بالألوان من القول، والثور الأشيه الذي فيه بلقة، يقال فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه، كل ذلك بمعنى البلقة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يُسْرٌ، والتعمق في سؤال الأنبياء عليهم السلام مذموم.
وقصة وجود هذه البقرة على ما روي، أن رجلاً من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة، فأرسلها في غيضة، وقال: اللهم إني قد استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي، ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه: إن أباك قد استودع الله عجلةً لك، فاذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها، وكانت مستوحشة، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا بقرته على الصفة التي أمروا بها، وروت طائفة أنه كان رجل من بني إسرائيل براً بأبيه فنام أبوه يوماً وتحت رأسه مفاتيح مسكنهما، فمر به بائع جوهر فسامه فيه بستين ألفاً، فقال له ابن النائم: اصبر حتى ينتبه أبي، وأنا آخذه منك بسبعين ألفاً، فقال له صاحب الجوهر: نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفاً، فداما كذلك حتى بلغه مائة ألف، وانحط صاحب الجوهر إلى ثلاثين ألفاً، فقال له ابن النائم: والله لا اشتريته منك بشيء براً بأبيه، فعوضه الله منه أن وجدت البقرة عنده، وقال قوم: وجدت عند عجوز تعول يتامى كانت البقرة لهم، إلى غير ذلك من اختلاف في قصتها، هذا معناه، فلما وجدت البقرة ساموا صاحبها، فاشتط عليهم، وكانت قيمتها- على ما روي عن عكرمة- ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام، وقالوا: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة السلماني، وقيل بوزنها مرتين، وقال السدي: بوزنها عشر مرات، وقال مجاهد: كانت لرجل يبر أمه، وأخذت منه بملء جلدها دنانير، وحكى مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء، ولم تكن من بقر الأرض، وحكى الطبري عن الحسن أنها كانت وحشية.
و{الآن} مبنيٌّ على الفتح ولم يتعرف بهذه الألف واللام، ألا ترى أنها لا تفارقه في الاستعمال، وإنما بني لأنه ضمن معنى حرف التعريف، ولأنه واقع موقع المبهم، إذ معناه هذا الوقت، هو عبارة عما بين الماضي والمستقبل، وقرئ {قالوا الآن} بسكون اللام وهمزة بعدها، {وقالوا الان} بمدة على الواو وفتح اللام دون همز، {وقالوا الآن} بحذف الواو من اللفظ دون همز، {وقالوا ألآن} بقطع الألف الأولى وإن كانت ألف وصل، كما تقول يا الله.
و{جئت بالحق} معناه- عند من جعلهم عصاة- بينت لنا غاية البيان، و{جئت بالحق} الذي طلبناه، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق، ومعناه عند ابن زيد- الذي حمل محاورتهم على الكفر-: الآن صدقت. وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف، وقالوا: هذه بقرة فلان، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر، وإن نحر أجزأت.
وقوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} عبارة عن تثبطهم في ذبحها، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى، وقال محمد بن كعب القرظي: كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها، وقال غيره: كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القتال، وقيل: كان ذلك للمعهود من قلة انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء، وقد تقدم قصص القتيل الذي يراد بقوله تعالى: {وإذ قتلتم نفساً}، والمعنى قلنا لهم اذكروا إذ قتلتم.
و{ادارأتم} أصله: تدارأتم، ثم أدغمت التاء في الدال فتعذر الابتداء بمدغم، فجلبت ألف الوصل، ومعناه تدافعتم أي دفع بعضكم قتل القتيل إلى بعض، قال الشاعر: [الرجز]
صَادَفَ درءُ السَّيْلِ دَرْءاً يَدْفَعُهْ

وقال الآخر [الخفيف]:
مدْرأٌ يدرأُ الخُصُومُ بقولٍ ** مِثْلَ حَدِّ الصِّمْصَامَةِ الهُنْدُواني

والضمير في قوله: {فيها} عائد على النفس وقيل على القتلة، وقرأ أبو حيوة وأبو السوار الغنوي {وإذ قتلتم نسمة فادّارأتم}، وقرأت فرقة {فتدارأتم} على الأصل، وموضع {ما} نصب بمخرج، والمكتوم هو أمر المقتول.
وقوله: {اضربوه ببعضها} آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل: ضربوه، وقيل: ضربوا قبره، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة، وقال القرظي: لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد، وقال السدي: ضرب باللحمة التي بين الكتفين، وقال مجاهد وقتادة وعبيدة السلماني: ضرب بالفخذ، وقيل: ضرب باللسان، وقيل: بالذنب، وقال أبو العالية: بعظم من عظامها.
وقوله تعالى: {كذلك يحيي الله الموتى} الآية، الإشارة ب {كذلك} إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية، إذ في الكلام حذف، تقديره: فضربوه فحيي، وفي هذه الآية حض على العبر، ودلالة على البعث في الآخرة: وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل، حينئذ حكي لمحمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر به إلى يوم القيامة، وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله تعالى: {اضربوه ببعضها}، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتاً كما كان، واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل وأن تقع معه القسامة.